عندما يختفي السكين

نُشر في
عندما يختفي السكين

دايماً ما يأسرني التفكير نحو المستقبل: كيف بيكون شكله؟ وكيف بيعيش الإنسان فيه؟ خصوصاً ونحن نعيش في عصر التطورات المتسارعة، حيث أصبح النمو اليوم "أسياً" وتجاوزنا مراحل التطور البطيء الذي كان يأخذ عقوداً.

ومع تصاعد مخاوف الناس والسؤال المتكرر: "هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظائفنا؟"، وجدت نفسي أفكر في الموضوع من زاوية أعمق قليلاً. العجيب أني بدأت ألاحظ نمطاً تاريخياً مثيراً للاهتمام: الحياة كل ما نتقدم تصبح أقل تكلفة وأكثر توافراً.

قديماً كان البشر يقطعون مسافات مهولة للحصول على الماء، واليوم تفتح الصنبور في بيتك لينزل الماء مباشرة. كذلك الإنترنت، كان السبيل الوحيد للوصول له هو الذهاب لمقهى إنترنت، واليوم العالم كله في جيبك.

محرك الوفرة: معادلة الطاقة والذكاء

طبعاً، أنا لست غافلاً عن الواقع؛ ما زلنا نرى الفقر، وما زال هناك مشردون في أكثر الدول تقدماً. نحن في مرحلة انتقالية حرجة، نملك أدوات الوفرة لكننا نديرها بعقلية الندرة.

لكن، لو نظرنا للاتجاه العام للمستقبل، فالصورة تتضح أكثر.

اليوم، عشان نشغل الذكاء الاصطناعي نحتاج طاقة، والدول بدأت تبني محطات طاقة عملاقة. هنا يظهر التناغم العجيب: الذكاء الاصطناعي يسرع أبحاث الطاقة، ووفرة الطاقة تغذي الذكاء الاصطناعي.

المعادلة بدأت تتضح: طاقة رخيصة + ذكاء خارق = تكلفة إنتاج تقترب من الصفر.

هذا التناغم يضعنا -بشكل متسارع- على أعتاب ما يسميه الاقتصاديون "اقتصاد ما بعد الندرة" (Post-Scarcity Economy).

تخيل عالماً تكون فيه تكلفة الغذاء، الدواء، المواصلات، وحتى بناء المنازل، زهيدة جداً لدرجة أنها تصبح في متناول الجميع كحق أساسي.

المصعد الإجباري في هرم ماسلو

وهنا تكمن المعضلة النفسية التي لا يتحدث عنها أحد. دعونا نستخدم هرم ماسلو لنفهم ما يحدث لنا تاريخياً:

  1. في الماضي (قاعدة الهرم): عاش الإنسان آلاف السنين يصارع عند القاعدة (الأمان والبقاء). كان المعنى واضحاً وبسيطاً: "أنا أصطاد وآكل لكي أعيش وأحمي عائلتي".

  2. اليوم (منتصف الهرم): رفعتنا التقنية والأنظمة الحديثة "تلقائياً" إلى المنتصف (الحاجات الاجتماعية والتقدير). أصبحنا نبحث عن المكانة، الوظيفة المرموقة، والانتماء. نحن عالقون هنا، نعرف أنفسنا بمسمياتنا الوظيفية.

  3. المستقبل (قمة الهرم): الوفرة القادمة ستدفع البشرية بشكل إجباري نحو القمة (تحقيق الذات).

المشكلة ليست في الصعود، المشكلة أننا سنصل إلى القمة ونحن غير مستعدين نفسياً. سيجد الإنسان نفسه فجأة وقد أُشبعت حاجاته الأساسية والأمنية، وسُحبت منه "شماعة" الانشغال بلقمة العيش.

العلم يحذر: السعادة ليست المعنى

في دراسة لافتة نشرت عام 2023 بعنوان "البحث عن المعنى في مجتمع ما بعد الندرة" (Pelligra & Sacco)، يشير الباحثون لنقطة جوهرية:

في زمن الندرة، كان مجرد الحصول على الموارد يعتبر إنجازاً يعطي للحياة معنى. أما في زمن الوفرة، الحصول على الموارد يصبح أمراً روتينياً ومملاً.

الدراسة تحذر من الخلط بين "السعادة" (المتعة اللحظية والراحة) وبين "الازدهار" (Flourishing) الذي يتطلب تحدياً وجهداً وشعوراً بالأثر. الخطر الحقيقي هو أن نغرق في رفاهية مريحة جداً، لكنها فارغة تماماً من المعنى.

أزمة الهوية: من أنا بدون "كرت العمل"؟

هنا نصل لأخطر سؤال وجودي.

ارتبط تعريف الإنسان لنفسه عبر التاريخ بـ "عمله". أول سؤال في أي مجلس: "وش تشتغل؟". الجواب يكون هويتك: مهندس، طبيب، معلم.

طيب، في زمن الذكاء الاصطناعي، عندما يتقلص دور العمل التقليدي أو يختفي.. من تكون أنت؟

عندما يختفي العمل كضرورة للبقاء، يختفي معه التعريف السهل للذات.

سندخل في أزمة هوية وجودية: "إذا لم أكن وظيفتي.. فمن أنا؟"

اختبار الـ 10 ملايين دولار.. وعودة "الصوت"

عشان أقرب لك الصورة، تخيل معي هذا التمرين الذهني:

لو قلت لك اليوم: ضمنت لك 10 مليون دولار شهرياً مدى الحياة.

هل راح تكون مرتاح؟ نعم، بالتأكيد.

راح تسافر، وتشتري، وتجرب كل متع الدنيا لسنة أو سنتين.. لكن، وش راح تسوي بعدها؟

هنا يصمت الجميع.

لماذا؟ لأن المحرك مات.

أغلب الناس اليوم لا يتحركون بوعي، بل يتحركون لأن هناك "سكين" يطعنهم من الخلف (الخوف من الفقر، إيجار البيت، ضغط المجتمع، الخوف من الفشل). نحن نجري هرباً من السكين، لا سعياً نحو هدف حقيقي.

في تلك اللحظة من الفراغ المستقبلي، عندما يختفي "السكين"، سيعود شيء دفناه منذ زمن: الصوت الداخلي.

هذا الصوت مات سابقاً تحت وطأة توقعات المجتمع وطاحونة المسؤوليات. لكنه سيعود ليسألك بوضوح:

"والآن، بعد أن ضمنت أمانك.. وش الشيء اللي مستعد تصحى عشانه كل يوم بحب وشغف، مو عشان فلوس ولا عشان الناس؟"

الخاتمة: لا تنتظر الوفرة لتكتشف الفراغ

كان لابد من توضيح هذا الجانب النفسي لارتباطه بالمستقبل.

نحن نظن أننا سنرتاح عندما تؤمن التكنولوجيا لنا المأكل والمسكن. لكن الحقيقة أننا سنخرج من "صراع البقاء" لندخل في "صراع المعنى".

مشاعر الخواء لن ترحمك إذا لم تكن تملك إجابة. والبحث والإنصات لهذا الصوت والمسير ورائه هو فعلياً طريق التعافي الذاتي لكل "كلاكيعك" وعقدك النفسية التي تراكمت عبر السنين.

لا تنتظر حتى يسقط السكين لتكتشف أنك لا تملك أقداماً للتحرك. اسأل نفسك اليوم:

لو استيقظت غداً، وقد اختفت كل التزاماتك المادية والاجتماعية.. ما هو الشيء الوحيد الذي ستبقى تفعله لأنك "أنت"؟