رحلة وعي من السطح إلى العمق: لماذا خُلقنا؟
تبدأ القصة دائماً بالسؤال الجذري: لماذا خلقنا الله؟
الجواب المألوف الذي يتردد دائماً هو أننا خُلقنا "لنعبد الله". لكن حين نفهم معنى العبادة كما تقدّمه النصوص، ندرك أنها ليست مجرد طقوس، بل هي "طريقة وجود": أن تكون واعيًا، صادقًا، أخلاقيًا، قادرًا على الخطأ والتعلّم، والسقوط والنهوض، والبحث والتحول. بهذا، يصبح الإنسان مساحة تظهر فيها قيم لا يمكن أن تظهر في عالم صامت لا يختار ولا يتغيّر. فوجود الإنسان هو الذي يجعل للرحمة معنى، وللعفو قيمة، وللحكمة مسارًا، وللنمو رحلة؛ إنه المرآة التي تتجلّى فيها المعاني.
لماذا يوجد إنسان أصلاً ليُظهر هذه المعاني؟
الجواب هو أن المعنى لا يوجد وحده، والقيمة ليست قيمة إلا عندما يُدركها أحد. الرحمة بلا محتاج ليست رحمة، والجمال بلا عين لا يُعرف، والحكمة بلا تجربة لا تتشكل. بدون الإنسان تبقى هذه المعاني ممكنة.. لكنها غير مُدرَكة، غير مُختبَرة، غير مُفعّلة. وجود الإنسان هو ما يحوّل القيم من "حقائق قائمة" إلى "تجارب حيّة". وبهذا يصبح الإنسان جزءًا حتميًا من ظهور المعنى نفسه.
لماذا يحتاج الوجود إلى "وعي" يدرك المعنى؟
لأن الوجود بلا وعي يصبح حقيقة بلا قصة. موجود؟ نعم. مفهوم؟ لا. الوعي هو ما يحوّل الحركة إلى فهم، والأحداث إلى حكمة، والمواقف إلى بصيرة. ليس لأن الله يحتاج مَن يعرفه، بل لأن المعرفة لا تُوجَد إلا في عقلٍ قادر على الفهم. الوعي هو الذي يجعل الوجود مفهومًا لا مجردًا، وبدونه يصبح الوجود صامتًا—حتى لو كان مليئًا بالحقائق. إذن، الوعي هو شرط ظهور القصة.
لماذا يوجد أصلًا "وجود" بدل العدم؟
لأن الكمال لا ينغلق على ذاته. النور يفيض ضوءًا لأنه نور، لا لأنه محتاج. الجمال يظهر لأنه جميل، لا لأنه مجبر. والكمال الإلهي أولى بهذا من كل ما عداه. الفلاسفة سمّوا هذا فيضًا، لكن يجب التنبيه: هو ليس فيضًا "اضطراريًا" كالضوء الخارج من الشمس، بل فيضًا نابعًا من كمال القدرة وتمام المشيئة معًا. اختيارٌ كاملٌ، صادرٌ من امتلاء كامل، وليس نتيجة حاجة أو نقص. الوجود إذًا ليس مشروعًا يعوّض نقصًا، بل أثر كمال يفيض.
لماذا نربط أصلًا بين الكمال والفيض؟
لماذا لا يكون الكمال ساكنًا؟ لأن كل كمال ندركه—حتى في أدنى درجاته—يظهر أثره بطبيعته. الضوء بلا إضاءة ليس ضوءًا، والرحمة التي لا تعطي ليست رحمة، والحكمة التي لا تُفهِم ليست حكمة. وإذا كان هذا صحيحًا في أدنى مراتب الوجود، فالكمال الأعلى أولى بأن يتجلّى. ثم إن "الكمال الساكن" هو في حقيقته نقص؛ لأن السكون ليس امتلاء، بل حياد. والكمال الحقيقي حيّ، فعّال، مُظهِر، لا جامد ولا مغلق.
لماذا أخذ الفيض شكل إنسان "ناقص"؟
قد يسأل سائل: إذا كان المصدر كاملًا، فلماذا لا يكون الفيض كاملًا أيضًا؟ لماذا لا يخلق الله مخلوقات كاملة فورية؟ أو ملائكة فقط؟
الكمال الإلهي لا يُدرَك من خلال كائن كامل فقط.. بل يحتاج مرآة تحتوي النقص أيضًا. اسم "الغفّار" لا يظهر إلا مع وجود من يخطئ، واسم "الرحيم" لا يظهر إلا مع محتاج وضعيف، واسم "الشافي" لا يظهر إلا مع مريض، واسم "الحكيم" لا يظهر إلا مع من يحاول أن يفهم. الملائكة تُظهر جانب "الطاعة والكمال"، لكن الإنسان يُظهر جانب "الافتقار والعودة والتغيّر والرحلة". النقص ليس خللًا في الإنسان.. النقص هو التصميم المتقن لظهور المقابل: الجوع لكي يظهر الشبع، الظلام لكي يظهر النور، الضعف لكي تظهر الرحمة، الخطأ لكي يظهر العفو، والضياع لكي تظهر الهداية. الوعي لا يدرك شيئًا إلا بضدّه، لذلك وُجِد الإنسان ناقصًا كي يُدرِك ما لا يُدركه الكائن الكامل.
لماذا الوجود "قصة" وليس حالة ثابتة؟
والآن، بعد أن تبيّن دور النقص، لماذا اختار الكمال أن يجعل الوجود "قصة" تتحرك بدل حالة ثابتة؟ لأن المعنى لا يعيش في السكون. القيم لا تظهر في الانجماد. الحكمة تحتاج تجربة، والقوة تحتاج مقاومة، والرحمة تحتاج ألمًا، والشجاعة تحتاج خطرًا، والنمو يحتاج حركة. ولأن المعنى لا يكتمل بالإجبار، كان لابد للقصة من "بطل حر". كائن يحمل "الأمانة"، يملك القدرة على أن يقول (لا) لكي يكون لقوله (نعم) قيمة. طاعة الملائكة مفطور عليها، لكن طاعة الإنسان اختيار وسط صراع. وهذا الصراع الحر هو وقود القصة. الزمن نفسه ليس مجرد انتقال لحظات، بل "المختبر" الذي تتفاعل فيه الخيارات والمعاني. القصة هي الشكل الوحيد الذي يسمح للمعنى أن يتجسّد.
لماذا الوعي لا يكتفي بذاته؟
لماذا صُمّم الوعي بعطش لا ينتهي للمعنى؟ لماذا لا يكتفي بذاته؟ لأن طبيعة الوعي ليست أن يوجد فقط.. بل أن يفهم. الوعي في جوهره "بحث"، "تأويل"، "حركة نحو المعنى". وعي بلا معنى يشبه عينًا بلا ضوء: العطب ليس في العين.. بل في غياب ما تُبصره. ولأن أصل الإنسان ليس ماديًا ("الروح من أمر ربي")، فهو يحمل إحساسًا غريبًا بالحنين—حنينًا لا يُشبع بالامتلاك ولا بالإنجاز، بل بالمعنى، بالحقيقة، بالقرب. العطش هو الإشارة التي تقول: هناك شيء أكبر من هذا العالم.. والوعي خُلق ليصل إليه. ولو كان الوعي مكتفيًا بذاته، لما تحرك نحو الحقيقة، ولما سعى للمعرفة. العطش ليس نقصًا.. العطش هو البوصلة.
من "فهم الوجود" إلى "خوض التجربة": دستور السائر
بناءً على هذا الفهم العميق الذي تشكل لدينا في الجزء الأول، يتغير دورك جذرياً من مجرد "مُنفذ للأوامر" إلى "خائض للتجربة". لم يعد المطلوب منك مجرد حركات آلية، بل يتحول الأمر إلى خطوات عملية يومية يمكن تلخيصها في أربعة محاور رئيسية، تترجم فلسفة الوجود إلى حياة:
1. لا تتقمص دور الملاك (عش بشريتك)
بما أنك أدركت الآن أنك خُلقت ناقصاً لتكتشف الكمال، فالمطلوب منك ليس "عدم الخطأ" —فهذا مستحيل— بل "حسن التعامل مع الخطأ".
ماذا تفعل؟ حين تضعف أو تخطئ، لا تجلد ذاتك حتى اليأس، ولا تتبجح بالذنب. بدلاً من ذلك، استحضر حقيقة اسم الله (الغفار) و(الرحيم)؛ فمحلّ هذه الأسماء وموضعها هو نقصك واحتياجك.
عملياً: اجعل توبتك رحلة عودة، لا مجرد ندم. تذكر دائماً: السقوط هو نصف الرحلة، والنهوض هو النصف الذي يكتمل به المعنى.
2. كُن مرآة لصفات الله (تخلّق بأخلاقه)
بما أنك "المرآة" التي تتجلى فيها المعاني كما أسلفنا، فعليك أن تعكس هذه القيم في الأرض لتتحول من مفاهيم ذهنية إلى واقع.
ماذا تفعل؟ الله رحيم، فكن أنت رحيماً بمن حولك لتفهم معنى رحمته. الله كريم، فكن معطاءً. الله عدل، فأقم العدل في محيطك.
عملياً: عامل الخلق كما تحب أن يعاملك الخالق. وجودك هو فرصة لتطبيق هذه القيم وجعلها "تجارب حية"، فالقيم تظل صامتة حتى يمارسها إنسان.
3. حوّل "الطقوس" إلى "وعي" (العبادة الحية)
بما أن العبادة هي "طريقة وجود" وليست مجرد حركات جسدية، فالمطلوب أن تمارس الشعائر بقلب حاضر، وعقل يقظ.
ماذا تفعل؟ الصلاة ليست إسقاط فرض، بل هي "ضبط للبوصلة" واستمداد للمعنى من المصدر حين تتوه في ضجيج العالم.
عملياً: لا تعبد الله وأنت غافل (كالآلة)، بل اعبده وأنت مستشعر للحاجة إليه. اجعل صلاتك وصيامك محطات شحن لروحك لتكمل الرحلة، وليست مجرد ديون تسددها لتتخلص من عبئها.
4. استمر في السير (النمو الدائم)
بما أن الوجود "قصة" وليس حالة ثابتة، فالمطلوب منك هو الحركة المستمرة، فالمعنى لا يسكن.
ماذا تفعل؟ لا تتوقف عن التعلم، ولا عن التساؤل، ولا عن تحسين نفسك. السكون موت للمعنى، والحياة في السريان.
عملياً: اسعَ لعمارة الأرض وإصلاحها. طور عقلك بالعلم، وقلبك بالتزكية، وواقعك بالعمل الصالح. كل خطوة للأمام هي جزء من الغاية التي خُلقت لأجلها.
الخلاصة العملية لهذه المرحلة:
المطلوب منك هو أن تعيش رحلتك بوعي كامل؛ تخطئ فتستغفر، يُِنعَم عليك فتشكر، تُبتلى فتصبر، وتتعامل مع الخلق بأخلاق الخالق. بهذه الديناميكية المستمرة، تكون في النهاية ذلك "الإنسان" الذي استحق أن يحمل الأمانة.
حين يثقل الطريق: ضريبة الوعي وفقه التعثر
رغم وضوح الغاية (كما في الجزء الأول)، ورغم معرفة خطوات العمل (كما في الجزء الثاني)، قد يعتريك شعور غريب بالوحشة أو الغربة. اعلم أن هذا شعور طبيعي جدًا، بل هو في الحقيقة "ضريبة الوعي". الكائنات التي لا تعي لا تشعر بالفراغ، هي تأكل وتشرب وتنام فقط. شعورك هذا هو الدليل الأكبر على أنك "غريب" عن هذا العالم المادي، وأنك تنتمي لمكان آخر ومعنى أكبر.
مشكلتك ليست في وجود هذه المشاعر، بل في تفسيرك لها. أنت تراها "معوقات" تمنعك من السير، بينما هي في الحقيقة "أدوات توجيه" تدفعك إليه. وإليك كيفية التعامل مع هذه العقبات الأربع لتعود للحركة:
1. الخواء والفراغ: (هذا ليس ثقبًا، هذا "وعاء")
الشعور بالفراغ الداخلي مؤلم لأنه "لامتناهٍ"، وأنت تحاول ملأه بأشياء "متناهية" (إنجاز، مال، علاقات). كلما وضعت شيئًا ماديًا في هذا الفراغ ابتلعه وبقي جائعًا.
الحل: افهم أن هذا الفراغ صُمم بحجم "اللانهاية" لكي لا يملأه إلا الله. هذا الشعور ليس ليحبطك، بل ليخبرك: "لا تبحث هنا، اصعد للأعلى". الفراغ هو مساحة مجهزة لاستقبال المعنى الإلهي، فلا تحشوه بالتراب.
2. فقدان المعنى: (مرحلة "الضباب" الضرورية)
حين تشعر أن لا شيء له معنى، فهذا يعني غالبًا أن المعاني القديمة السطحية التي كنت تعيش بها (مثل إرضاء الناس أو التكاثر المادي) قد تحطمت، ولم تتشكل المعاني الجديدة العمقية بعد.
الحل: هذه فترة "انتقال" وليست "نهاية". أنت في مرحلة انسلاخ الجلد القديم. لا تجبر نفسك على اختراع معنى، بل استمر في السير "بالواجب اليومي البسيط" حتى ينقشع الضباب. المعنى لا يُعثر عليه دفعة واحدة، بل يتشكل ببطء مع السير.
3. غياب الهوية: (أنت تخلع الأقنعة لا أكثر)
أنت تشعر بضياع الهوية لأنك ربما عرّفت نفسك بأشياء زائلة (أنا المهندس، أنا الأب، أنا الناجح). حين تهتز هذه الأشياء، تهتز "أنت".
الحل: هذا التيه هو فرصة لتعود لتعريفك الأصلي الثابت الوحيد: "أنا عبدٌ لله يسعى إليه". هذا التعريف لا يهتز بمرض أو فقر أو فشل. ضياع الهويات الفرعية هو تنظيف للطريق لتكتشف هويتك الحقيقية.
4. استباق النتيجة: (فخ الوصول)
مشكلتك أنك تريد "الطمأنينة الكاملة" الآن، وتريد أن تكون "العارف بالله" الآن. هذا الاستعجال يجعلك تحتقر خطواتك الصغيرة الحالية.
الحل: تذكر قاعدة القصة التي ذكرناها: "البطولة في الصراع، لا في لحظة الانتصار". الله لا يحاسبك على "الوصول" بل على "المحاولة".
قبولك بأنك "في الطريق" وأن القلق جزء من الرحلة، هو الذي يمنحك السكينة، وليس الوصول للنهاية.
الخلاصة العملية: "سِر وأنت تعرج"
عندما يهاجمك هذا الثقل، طبّق هذه القاعدة الذهبية: "سِر وأنت تعرج".
لا تنتظر أن يختفي الفراغ لتبدأ العبادة أو العمل. لا تنتظر أن يتضح المعنى كاملاً لتتحرك. تحرك بأسئلتك، بقلبك الفارغ، بتشتتك.. ضع كل هذا العجز على عتبة الله وقل: "يارب، أنا لا أعرف، ولكني أتجه إليك". هذه الخطوة العرجاء.. هي عند الله أصدق وأسرع من ركض الواثقين.
رسالة الختام: سر "التفكّر" واكتمال الدائرة
في نهاية المطاف، ندرك أن هذه الرحلة من سؤال "لماذا خُلقنا؟" وصولاً إلى قاعدة "سِر وأنت تعرج" ليست خطاً مستقيماً نحو كمالٍ وهمي، بل هي دورة حية من السقوط والنهوض. ولكي لا تضل في شعاب هذا الطريق الطويل، تذكر أن أعظم أداة تحملها في جعبتك هي "التفكّر" (Reflection).
هذا التفكّر هو "عين القلب" التي تزن بها الرحلة؛ فبه يزداد وعيك وإدراكك، فترى حجمك وضعفك فتتأدب، وترى قدرة الله وعظمته وحكمته فتطمئن. وبين رؤية عجزك ورؤية قدرته، تصبح أكثر تصالحاً مع ذاتك الناقصة، وأكثر تسامحاً وتعاطفاً مع الخلق.
بالتفكّر تدرك أنك —بضعفك، وحيرتك، وسعيك— لستَ "مشروعاً فاشلاً"، بل أنت "القصة" التي أراد الله لها أن تُروى، وأنت "المرآة" التي اختارها لتعكس رحمته. فلا تخشَ نقصك؛ لأنه النافذة الوحيدة التي تطل منها على كماله، ولا تيأس من وحشة الطريق؛ لأن الله لا ينتظرك عند "خط النهاية" فقط.. بل هو معك "في كل خطوة".
عِش رحلتك متفكراً، واعلم أن العبادة هي الطريق.. وأن الله هو الغاية.. وأن قلبك لن يهدأ حتى يعود، ولكنه سيعود وهو "عارف"، لا مجرد "موجود".